{ ،، .. لأني لستُ عاديًا !

الاثنين، 17 مايو 2010 في 11:49 م

كُنتُ أسابقَ الزمنَ وأنا أُعدُ حقيبتي الشخصية كبيرة الحجم، لدي موعدٌ مُهمٌ السادسة مساءً مع قادة المجموعات التطوعية، وعلي أن أسرع إن أردتُ أن أصلَ في الموعدِ! حاسوبي المحمول الصغير، هاتفي، كاميرتي، ملفُ الأوراق، وماذا بقي أيضًا ؟ آه، محفظتي، نعم، ها هي هُنا، جيد، لم يتبقى شيء، وضعتُ الحقيبةَ على كتفي وهرعتُ أقفزُ نازلةً درجات المنزلِ في سرعةٍ، ركبتُ سيارتنا مُستعجلةً السائق ليتحرك، علي المرور على بيتِ سندس - صديقتي - أولًا ، ثم سنذهبُ إلى أندلسية، حيثُ سيعقدُ الاجتماع، .. أرسلتُ رسالةً مُستعجلةً إلى صديقتي سُندس أخبرها باقترابي من منزلها، لا أريدُ أن نتأخر كثيرًا، لاحَ المنزلُ في نهايةِ الشارعِ، ووجدتها تنتظرُ عند باب البيتِ، فتحت لها باب السيارة وهي تلقي السلام ونتبادلُ الأحضان والتَحية، كانت تبتسمُ وهي تسألني عن أحوالي وأخباري،
- كيف هي تجهيزاتك لاجتماعِ اليوم ؟ وكيف تشعرين الآنَ ؟
- جيدة جدًا، لكني متوترة بطريقة ما، تعرفين مزاجي التشاؤمي أحيانًا .
- تعلمين أن هذا لن يُفيد، هيا استرخي، سيسيرُ كُل شيء على ما يُرامُ بإذن الله .
كان لكلماتها المُطمئنة كبيرُ الأثرِ على توتري، إذ سرعان ما استرخيتُ ، وأخذتُ أحَدّثها عن أهم النقاطِ التي سُتطرح اليومَ،
ولم نشعر إلا بالسيارة تقفُ مُقابلَ البوابة الأمامية للمقهى المعروف، نزلنا وأنا أخبرُ السائق بأن يعودَ لي بعد ساعتين من الآن، تقدمنا نحو البوابة الزجاجية المغطاة بالزخارف البيضاء والفضية، ذات الإيحاء الأندلسي، أيا أندلسنا الحبيب، ألم يحن وقتُ اللُقيا ؟
توجهنا نحو مكاننا المفضل، في الجهة اليُمنى، حيثُ كانت لنا فيه ذكرى قديمة - عزيزة - ، لطالما أحببنا هذا المكان بسبب جوهِ الإسلامي العابقِ بالتراثِ الأندلسي، الأثاث، واللوحات، والزخارف، وكذلك لباسُ النادلِ، كُلُ شيءٍ يوحي بأندلسية !
لم يطُل انتظارنا هذه المرة، إذ سرعان ما وصل قادة الفرق التطوعية الشبابية، كان الهدفُ من هذا الاجتماعِ بالذاتِ هو توحيد الجهود، وتجديد النَوَايَا، فجميعُ الفرق التطوعية تتكونُ من شبابٍ وشاباتٍ عرفوا كيف يخدمون محيطهم، وأهالي مدينتهم، وأمتهم بأعمالٍ مُختلفةٍ، تحدثنا عن تخصصات الفرق بشكلٍ عامٍ، ثم أبرزَ المشاكل التي نواجهها كشباب، وكمتطوعين، كمنجزين، ومُفيدين، من رفض، ووضع عوائق، لعدم تفهم، ناقشنا أفضل الحلول، وكيفية التعامل مع مثل هذه الأمورِ، ثم انتقلَ بنا النقاشُ إلى فكرةٍ لمشروعٍ مُشتركٍ، يهدفُ إلى توضيح المعنى الحقيقي للوطنِ والوطنية، ومحاولة زرع هذه الثقافة النقية في قلوب الفتيان والفتياتِ، كما اقترحت صديقتنا مريمُ أن نقوم بعمل جلسةِ نقاشٍ مفتوحةٍ عن حُبِ الوطن، وحقهِ علينا، وواجبنا نحوه كأناسٍ نعيشُ على ترابه، ونشربُ من ماءهِ، ووافقتها حنانُ بحماسةٍ وهي تطرحُ أفكارًا تطويرية، وكيف أن في نفسِ كُل شخصٍ بذرةٌ صالحةٌ، وكشبابٍ واعٍ، علينا أن نشارك ما نعرف ونفهمُ مع غيرنا ، استمر اللقاءُ لساعةٍ ونصفٍ، وانتهينا إلى ضرورة التحدثُ مع فِرَقِنَا عن فكرة مشروع الوطنية، وتقرر اجتماعنا مرةً أُخرى في نفس المكان والزمانِ، بدأتِ الفتياتُ بالإنصرافِ الواحدة، تلو الأخرى، وعندما لم يتبقى الكثيرُ منهن، إذا بفتاتين تدخلان من البابِ متوجهتين نحونا، ابتسمت مُندهشة وخرج صوتي أعلى مما يجب :
‫-‬ لوتي، سميتي، مرحبًا بكما، لم نتوقع مجيئكما إطلاقًا!
كانتا تضحكان الآنَ بمرحٍ، بينما سندسُ تُضيف :
‫-‬ هل كان كُل هذا مُخططًا ؟ أمظهرنا ونحنُ مُتفاجئتين جميلٌ إلى هذه الدرجة ؟
ضحكتا مرةً أخرى بينما سميتي تُجيب :
‫-‬ على الإطلاق، لم أظن أني سأستطيعُ القدومَ أبدًا، لكني استطعتُ، بعدما انتهى وضاعَ الاجتماعُ .
كانت تتحدثُ وهي تنظرُ إلى من تبقى من الفتيات بنظراتٍ خائبة، بينما تنهدت إيلاف وهي تقول :
‫-‬ على الأقلِ، أنتما هُنا، وستشرحان لنا ما الأخبار والتفاصيل، من الجيدِ أنكِ لم تدعي السائق يذهُب بعيدًا يا أروى .

جلسَ أربعتنا نتحادثُ ونتطمنُ على بعضنا، فلم نكن نتقابل كثيرًا، فقط وقت العمل! سردنا لهما تفاصيل الاجتماعِ، وما توصلنا إليهِ، كانت لوتي تفكرُ بعمقٍ بعدما انتهينا، كُنت انظرُ لها مُنتظرةٍ لحظة الصحوة وزيارة الأفكار !
وقد حانت إذ تنبهت من سرحانها وهي تنظرُ إلينا مُبتسمةً :
‫-‬ ما رأيكم في إطلاق حملةٍ شبابيةٍ، تهدفُ إلى إثارة حماسة الفتيان والفتيات، وإيصال المعنى لهم باختصارٍ وعُمقٍ كافيين ؟
- كيف .. ؟!!
تسائلنا جميعًا وقد شدنا ما قالتهُ، فأكملت وهي تفكر :
- نبدأُ حملةً بسيطة، تدعو إلى تبني الجنسية الإسلامية، والمعنى الأصيل للوطنية ، يُمكننا دمج الأمرين بطريقةٍ جميلةٍ !
- وضحي أكثرَ لوتي، ما الذي يدورُ في بالكِ ؟
سألت سندسُ وهي تركزُ عينيها على وجه لوتي، وعينيها ، تحاولُ أن تكتشفَ أي شيءٍ في تعابيرِها، انتظرنا لثوانٍ قبل أن ترفعَ رأسها إلينا وهي تكملُ بسرعةٍ :
- تعرفونَ فكرة الجنسية والدولة الإسلامية الموحدة، التي طُرحت في إحدى المرات، أميلُ إلى تطبيقها الآنَ وبشدة، ستكونُ موضوعًا مُناسبًا جدًا .
أومأتُ برأسي إيجابًا بينما سميتي تضيف :
- بالفعلِ أوافقكِ لوتي، سيكونُ جميلًا أن نرتقي بانتمائنا لدرجةٍ كهذه، ما رأيكن يا فتيات ؟
- بالطبعِ، إن نجحت الفكرة، فسيرتقي الناسُ بفكرهم كثيرًا، وستقلُ مشاكل التعصب والقبلية بيننا، أوافقكن وبشدة، ما رأيكُ سندسة ؟
هتفتُ وأنا أقلب نظري بين وجوه الفتيات قبل أن يستقر على وجه سندسة الهادئ - ظاهرًيا - والتي تخفي عينيها حماسةً واضحةً في لمعانها،
- سنطرحُ الفكرة في اجتماعِ الأسبوع القادم، وأكادُ أجزم بأنها ستلقى استحساننًا كبيرًا، بإذن الله .

رن هاتفي في تلك اللحظة، السائقُ ينتظرُنا، أُضطررنا إلى الخروجِ مسرعتين، أوصلتها إلى منزلها، وودعتها إلى لقاءٍ في نفس الموعدِ الأسبوعَ القادم إن شاءَ الله .


~ ,، ~ ,، ~ ,، ~ ,، ~ ,، ~


طلبنا عقد الاجتماع مبكرًا هذه المرة، لوجودِ الكثير مما نريدُ النقاشَ حولهُ، طرحنا فكرة الجنسية والانتماء الوطني الواحد، فنحنُ مُسلمون، نعيشُ في بلادٍ إسلاميةٍ، وواجبٌ علينا العملُ لأجل رفعتها، وتعميرها، ورُقيها، كما خمنت سُندسة، نالت الفكرة استحسان الجميع، وطُرحت الأفكارُ التنفيذية تلو الأُخرى، كان النقاشُ مُثمرًا جدًا، حتى أني اضطررتُ إلى تسجيل النقاط الرئيسية والأفكار المطروحة حتى لا أنساها، قررنا أن نُقيمَ مؤتمرًا يطرحُ ويناقش هذه الفكرة مع أصحاب الرأي والثقافة والمعرفة، ثم سنعقدُ مؤتمرًا آخرَ مفتوحًا، نطرحُ فيه الفكرة للجميعِ، وُزِعتِ المهام، وأصبح لكل فريقٍ مُهمةٌ يعملُ عليها خلال الأسبوع، المؤتمر الأول سيكون بعد خمسة أيام، وسأقوم بتوجيهِ الدعواتِ اليوم، سُيعقد في قاعة العِزّة، بالمركز ثقافي، التابع لجمعية الفِرقِ التطوعية الشبابية .

عدتُ إلى البيتِ وأنا أكادُ أطيرُ فرحًا، وحماسةً، أحبُ المشاريع الهادفة والبنّاءة! أحبها كثيرًا، جدًا ، بدأت العمل على النقاط الرئيسية التي سأطرحها في مؤتمر المُفكرين بعد خمسة أيامٍ، يجبُ علي شرحُ الفكرة بكامل تفاصيلها، وعلي تقديمُ أسبابٍ منطقية، تجعلهم يقتنعون بالفكرة، بقيتُ على اتصالٍ يومي بسميتي، نساعدُ بعضنا البعض في الترتيبِ والنظيم والتدقيق،
مضتِ الأيامُ الخمسة بسرعة البرقِ، ولم أجد نفسي إلا وأنا متجهة إلى المركز الثقافي ، ولم يتبقى إلا ساعة واحدة فقط على بدأ المؤتمر، وكان التوتر قد يبدأ يجتاحني بقوةٍ، أسأصابُ بالخجلِ الآن ؟!
وجدتُ سميتي بانتظاري عند المدخل، بعد التحية والأحضان المُعتادة، أخبرتني أنهم يتوقعون حضور الجميعِ اليوم، فلم يتقدم أي أحد بالاعتذار عن القدومِ - حتى الآن -، أخذتُ نفسًا عميقًا ونحنُ نتجهُ إلى كواليس المسرح، مضت الدقائق تباعًا، وجاءتني المسؤولة عن المسرحِ لتخبرني أنه تم وضعُ الكراسي والطاولة في المكان المُتفق عليه، ولم يتبقى من الوقت إلا خمسةُ دقائق، ألتفتُ وأنا اتأكدُ من الأوضاع، ثم سرتُ نحو منتصف المسرح، حيثُ وضعت الكراسي حول طاولة منخفضة نسبيًا، رحبت بجميعِ الحاضرين، رئيس جمعية الفرق التطوعية الشبابية، وضيوفه من مُفكرين وأدباء، صحفيين وكُتاب، ناقدين وقُرّاء، بدأتُ بمقدمةٍ بسيطة عن المعنى الحقيقي للوطنية، وأنها انتماءٌ للأرض لا الأشخاص، واسم الدولة والجنسية، هو اسم مُلصقٌ بالأرض، لا الجهات، ثم بدأت بعرضِ الفكرة الرئيسية، كان الشرح مُختصرًا، فلم يكن هناك الكثير ليقال، كانت كُل كلمة تفصِحَ عن ما تعنيه دون أي جهدٍ،
انتهيت من الشرحِ، وأتت سميتي تكملُ مهمة الإقناعِ، وهي تفصِّلُ الفكرة بكل منطقية ورُقي، وما إن انتهت، حتى علت همهماتٍ كثيرة بين صفوفِ الحاضرين،
وانهمرت التعليقات والأسئلة، وانضمت إلينا صاحبة الفكرة لوتي، لتجيب عن استفساراتهم واستيضاحاتهم،
انتهى المؤتمرُ الأولُ على خيرٍ، وكانت النتيجة إيجابية، فقد أُعجب الأغلبية بالفكرة، ووجدوا أنها فرصة جيدة جدًا للوحدة العربية .

وهكذا، بدأت مرحلةُ الجدِ والعمل الحقيقي، تم تحديد موعد المؤتمر المفتوح بعد أسبوعين تقريبًا، .. وإُرسلت الدعوات داخل المملكة وخارجها، وطُبع الإعلان في الصحف والمجلاتِ، وكان علينا التحضير لفقرات هذا المؤتمر، وبدأ الخُطط التنفيذية، والتواصل مع من يستطيعُ مساعدتنا بطريقةٍ أو بأخرى،
كان العملُ علي أمرٍ كهذا ممتعًا جدًا، مُجهدًا، .. لكن المُتعة تطغى عل كُل شيءٍ، وكُلما تخيلنا النتيجة وما يُمكن أن يحدث، ازداد حماسنا أكثرَ فأكثر .. مع كُل يوم يمضي، ويقتربُ الموعد المُقرر، كان لوجودنا مع بعضنا أثرٌ إيجابي كبير، عملنا كيدٍ واحدةٍ جاهدين، واقترب يومنا الكبير، يوم المؤتمر المفتوحِ،
اسألُ الله أن ييسر لنا الخير يا رب!
سيُعقد المؤتمر في يوم الخميس، سيبدأ من العاشرة صباحًا، وحتى الثانية ظهرًا،

كان يومًا كالحُلمِ ..
حقيقيًا لدرجةٍ لا تُصدق،
كُنت اتبادل النظرات مع رفيقاتي، وصوتُ دقاتِ قلوبنا يكادُ يكونُ مسموعًا ، وواضحًا لنا !

كان رئيس الجمعية يقوم بالتقديمِ، وإلقاء كلمته الرئيسية، ثم يأتي دور إيلاف لتشرح فكرتها بالتفصيل، وستساعدها سميتي في تحليل الأمور بمنطقية مُقنعة، كُنت أقفُ وراء الستارِ، انظرُ خلسةً من الطرفِ الأيمنِ للمسرحِ، أرى الجماهير الحاضرة، وأرى رفيقتَيّ تتحدثان، ورئيس الجمعية، .. ثم يعود بي نظري إلى كُل أولائك البشر!
لم يخرج أحدٌ، ولم يعترض أحد كذلك، أهذا يعني أن الفكرة قد نالت القبول حقًا ؟
تنهدتُ ودمعاتٌ تفرُ من عيني دون دارية مني، وجدتُ سندسة تقفُ بجانبي مبتسمة، مبتهجة، متأثرة مثلي تمامًا!
‫-‬ نعم، إنه أمرٌ لا يُصدقُ، لكن لا شيء بعيد عن الله عز وجل، وسنستطيعُ فعلها على أكملِ وجه، بإذن الله!
نظرت إليها دون أي مقدرةٍ على الحديثِ، .. فما كُنت أشعرُ به في تلك اللحظة، أقوى وأكثر، وأعمق من أن يُصف في كلماتٍ قليلاتٍ !
أحسستُ بقلبي يُرفرفُ فرحًا، وابتسمتُ! شبه ابتسامةٍ ظهرت على شفتي!
ويبدو أن صديقتي الصدوقة لم يفتها شبحُ ابتسامتي إذ هتفت :
‫-‬ يا للعار! أستبكين في كُل مرة نبدأُ فيها بتحقيق أملٍ لنا ؟ تعلمين أني أكره الدراميات!
ضحكت وأنا أرى نظرتها الحادة الموجهة صوبي، مسحت الدمع من عيني مثبتةً لها أني لم أكن أبكي حقًا، وعُدتُ أنظرُ إلى الحاضرين، المئاتِ منهم، بل آلافًا قليلة، يا له من شعورٍ رائع، شعور الإنجازِ !
‫-‬ فازَ من حياته إنجاز !
تمتمتُ لنفسي بغبطةٍ، .. فهمست سندسُ في أُذني :
‫-‬ لأني لستُ عاديًا، لا تنسي هذا أبدًا !

الاثنين، العاشرة والنصف مساءً،
الثالث من شهر جمادى الثاني، لعام ألفٍ واربعمئةٍ، وواحدٍ وثلاثين بعد الهجرة !