تحت سماءِ القريةِ الصافيةِ ، طُيورُ البُلبلِ الصدّاحِ تُغردُ ، ومن حولها الفراشُ والنحلُ على الزهرُ يحطُ لثوانٍ تكفي لاهتزازِ بُتيلاتِ الزهرِ ، ثمّ تُحلقُ ثانيةً مع هَبِّ النَسيمِ ، وفي ميدانِ تلكَ القريةِ الصغيرةِ ، تجمعتِ الفتياتُ والأطفالُ حولِ ينبوعِ الماءِ ، يملئنّ جِرارهنّ ، ويلعبُ الأطفالُ بالقطراتِ ، يتناثرونها ..
وبين كُل ذلكَ ، كانَ هُو !
ذاكَ الفتى ، مرحًا ، يمشي قفزًا ! يلعبُ مع هذا الطفلِ وذاكَ ، ينثرُ القَطراتِ على هذهِ الصغيرةِ ، ويُقبّلُ جبينَ تلكَ ، كانَ أطفالُ القريةِ ينتظرونَ قدومهُ بلهفةٍ كُل نهارٍ ،
على طرفِ الينبوعِ ، إحدى الفتياتُ تهمسُ لرفيقتها من تَحِتِ خِمارها قائلةً :
- أرأيتِ ذاك الفتى ؟
تنظرُ رفيقتها تجاهـهُ ، وهي تعقدُ يديها :
- ذاك الفتى المرحُ تقصدين ؟ .. يبدو مليحًا !
- حمقاء! ألا تعلمين من هو ؟ .. إنه ذاك الفتى الذي تتحدثُ عنهُ القريةُ بأكملها سرًا !
- أتقصدين الشاب العاشق ؟!
نطقت رفيقتُها بالكلمةِ شاهقةً، وهي تكملُ :
- لكن لا يبدو ذلكَ في طلتهِ على الإطلاقِ ، إنه يبدُو .. " بريئًا " !
- المظاهرُ خدّاعة، ألا تذكرين ؟! إنه هو بذاته ، العاشق المجنون!
* .. * .. * .. * .. * .. * .. *
صوتُ المِفتاحِ في القُفلِ ، يُفتحُ الباب ليطلَ الفتى ذاتهُ ، وهو يبتسمُ قائلًا :
- أهلًا حبيبتي ، ها قد عُدتُ لكِ! .. أأشتقتِ إليّ كما اشتقتُ لكِ ؟ حسنًا ، لم أشتق لكِ فقط ، بل بدونكِ ما كُنتُ لأقفَ أمامكِ هاهُنا !
ابتسم مرةً أخرى ، ثم تحولت ابتسامتهُ إلى ضحكةٍ عاليةٍ وهو يقتربُ منها ويقولُ :
- ها قد أتى موعدكِ يا معشوقتي الصغيرة، معذرةً على التأخيرِ ، لكن تعلمينَ أني لا أحبُ الالتزام بموعدٍ مُحددٍ!
خَطى خُطوتين أُخريين إلى الأمامِ ، وذاتُ الابتسامةِ .. لم تزل " منحوتةًً " !
* .. * .. * .. * .. * .. *
فِي طريقِ عودةِ الفتاتينِ إلى بيتهما ، تُحدثُ إحداهما الأُخرى :- لم تُخبريني ، ما قصةُ العاشق المجنونِ ؟
- ألا تعلمين ما هي ؟ ألم يُخبركِ والديكِ ؟
- لا ، لم يفعلا ! فقط قالا لي أن أبتعدَ عنهُ إذا رأيتهُ !
تتنهدُ الفتاةُ الأُخرى قبل أن تُجيبً قائلةً :
- هذا الفتى ، واقعٌ في الحُبِ!، هو يعشقُ للنُخاعِ! لم يرَ أحدٌ معشوقتهُ يومًا ، لكن جميعُ أهلِ القريةٍ يلحظونَ عليهٍ تغييرًا جذريًا بعدما يدخلُ كوخهُ في جانب القريةِ المقصيّ ، ففي الصبحُ ، يكون كئيبًا ، وحزينًا ، يدخلُ الظهرَ إلى بيتهِ ، ليخرجَ في العصرِ شابًا مرحًا ، يُحب الحياةَ ويستمتعُ بها! ، على الرغمُ من أنه لا يلقى عشيقتهُ أكثرَ من مرةٍ واحدةٍ في اليومٍ ، إلا أن تأثيرها يبقى حتى خلودهِ إلى النومِ ، كما أنهُ مُخلصٌ لها ، فهو لا يُسبب الضيق لفتيات القرية مثل غيرهِ ، بل يُعاملهنّ بكلِ احترامٍ ، ولهذا السببِ يكرهـهُ رِجالُ القريةِ وفتيانُها !
ضحكت رفيقتها في خفوتٍ وهي تقولُ :
- يا لها من قصة حُبٍ! كم هي محظوظةٌ هذه الحبيبةِ !
* .. * .. * .. * .. * .. *
ضحكةٌ عاليةٌ تخرجُ من فاهِ فتى الكوخِ ، وهو يُمسكَ بوجهـهِ أمام المرآةِ ، ثمّ سكونٌ ! بعينين ناريتينِ ينظرُ إلى وجههِ ويُدققَ النظر ..
- أحقًا هذا ما آلَ إليهِ الحالُ ؟! .. ياللمهزلةِ !!
يُدير وجهه ويبتعدُ ، يجلسُ على طرفِ السريرِ ، يضعُ رأسهُ بين يديهِ ويهمسُ :
- ألسنة أهل القرية ، ألن تتوقف يومًا ؟! ألن يتركوني في سلامٍ يومًا ؟! .. تبًا ، لا أحتملُ كُل هذه الترهاتِ!
شدّ نفسهُ واقفًا في عصبيةٍ ، ووقعت عيناهُ عليها ، عشيقتهُ الصغيرة! .. أظهر أسنانهُ في قوةٍ فيما يشبهُ الإبتسامَ ! ثم أدار وجههُ بعيدًا ، أقتربَ من النافذةِ وهو يختلسُ النظراتِ ، ذاتُ المنظرِ المشئوم ! كم أكرهـهُ ! عاد بنظرهِ إلى صغيرتهِ .
عقدَ حاجبيهِ في قوةٍ وهو يقولُ :
- قد حانَ وقتكِ أيا حبيبة ؟ ألم تحنّي لِلُقيايَ ؟!
أقترب وعلى وجهه ملامحُ العاشق الولهانِ ، فتحَ الجرةَ في قوةٍ ، وهو يُلقي نظرةً على الصُررِ الصغيرةِ التي ملأتِ الجَرةِ ، أمسك بُصرتينِ وهو يقولُ :
- لابدَ لي من مُضاعفةِ الجُرعة ، علّها تُفيد !
توجهُ إلى رُكنِ الكوخِ ، وبيده الأخرى كأسُ ماءٍ ، جلسَ القُرفصاءَ ، وهو يُقربها من فمهِ ويُداعبها بين شفتيهِ في تلذذٍ! هِي فقط من تُعطيهَ ذاك الإحساسُ! أبتلعَ ما في الكأسِ مرةً واحدةً ، ثمّ أخذ يضحكُ في قوةٍ ، وهو يصرخُ فرحًا :
- ها أنتِ يا حُلوتي ، فلتأخذي بيدي بعيدًا ، بعيدًا جدًا! فما عُدتُ أرغبُ في البقاءِ هُنا، ليسَ بعد الآنَ .
ضحكاتٌ عاليةٌ ، أرهبت العصافير المُغردة! ، مُندفعةٍ بشعورٍ " الرُعبِ " ، أطلقت أجنحتها في قوةٍ لتندفعَ نحو السماءِ .. مُحلقةً !
أروى عدنان شفي
4:21 صباحًا ،
الأحد ، 9 رمضان ، 1430 هـ
30 أغسطس 2009،
إهداء خاص ، لأخي الأكبر الدُبي
هو يعني، إهداء من نوع خاص، لأن هو البطل، وصاحب الفكرة، ومعدّل السيناريو، هع :P
4:21 صباحًا ،
الأحد ، 9 رمضان ، 1430 هـ
30 أغسطس 2009،
إهداء خاص ، لأخي الأكبر الدُبي
هو يعني، إهداء من نوع خاص، لأن هو البطل، وصاحب الفكرة، ومعدّل السيناريو، هع :P